هل مازال بإمكاننا، في عصرنا الحالي، الحديث عن "الحضارة الصينية" التي وصفها صامويل هنتنغتون سنة 1993 والتي يمكن أن تضم الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، سنغافورة، تايوان والشتات الصيني؟
حسب نظريات هنتنغتون، الدول التي ذكرتها جميعها تشترك في نفس الخاصية الواحدة الأساسية: الثقافةالكنفشيوسية. المهم هو إن هذه الخاصية يتم توظيفها في الوقت الراهن من طرف حكام هذه الدول لتبرير طبيعة وشكل أنظمتهم بالكنفشيوسية. هذا مظهر مشترك بشكل كبير في إيمان الطبقات الحاكمة (على حد سواء بالنسبة للتوجهات اليسارية واليمينية في الأصل على الأقل) . لقد تم تبني النظرية الكنفشيوسية لأول مرة من طرف "لي كوان يو" الأب المؤسس لسنغافورة وبعد ذلك تم اكتسابها من طرف الطبقة الحاكمة في الصين رغم أصولها الماوية. هذا الاعتقاد يفترض فكرة إن المفهوم الغربي للديمقراطية الليبرالية غير قابل للتطبيق في هذه الدول الأسيوية لأن هذه البلدان ـ بسبب إرثها الكنفشيوسي ـ تتجه إلى النظر إلى أنفسها، أنظمتها وإلى قواعدها كأنها قواعد عائلية؛ نظام عضوي قائم على علاقات تضامن متينة، على التناغم الثقافي وفي نفس الوقت على قواعد تراتبية صارمة كما هو الشأن في أسرة مبنية على احترام الأبوين. تشبث "لي كوان يو" بهذا الاعتقاد لبناء سنغافورة الدولة المدينة السلطوية الأبوية اليمينية؛ ولكنه حاضرـ بشكل أقل بروزاـ في "النومنكلاتورا" الشيوعية الصينية الحالية.
لذلك فإن الحكام يستعملون الإرث الكنفشيوسي لتبرير أعمالهم أمام الشعب الذي لم ينتخبهم بشكل ديمقراطي ؟
نعم وفي الوقت الذي نجد هذا جليا في سنغافورة، فإنه لا يتم الحديث عنه رسميا في الصين .
لن تجد أبدا مقالا في إحدى الصحف الصينية يقول "لن نمنحكم الديمقراطية لأننا كنفشيوسيون". إنه اعتقاد ماهر يتم تداوله بين الطبقة الحاكمة و يتم استعماله بشكل واسع للتعامل مع الصحفيين الغربيين. في كل مرة تسنح لنا الفرصة لتوجيه السؤال إلى الطبقة الحاكمة (من أعضاء النظام إلى الرأسماليين الجدد ) فإن محاولاتنا لزرع بذرة النظرة الديمقراطية تواجه بهذا التبرير. إن "العقيدة" الحالية حاضرة بشكل كبير لكنها ليست رسمية لأن العقيدة الرسمية ما زالت مرتبطة بماو تسيتونغ.
أليس هذا الإحساس القوي بالجماعة متصادما مع الفردانية التي سادت في العقود الأخيرة ؟
نعم، بالطبع هو كذلك . ولكن عودة الكنفشيوسية تمثل محاولة لاحتواء هذه الفردانية .ونتيجة للمآسي والأزمات التي عان منها المجتمع الصيني خلال حكم ماو ، فإنه ظل يبحث – لبضع عقود- عن ملجأ في بعد خاص . خلال ثلاثين سنة من الماوية، و خاصة خلال عقد الثورة الثقافية، جربت الصين غزو السياسة الأقوى لحياة الأفراد الذي لم يشهد له العالم مثيلا. كان مستوى التسييس متطرفا .بمجرد وفاة ماو، بالرغم من أن هذه النظريات لم يتم إلغاؤها رسميا، برزت ظاهرة نفاق الخطاب الماوي. وعى الشعب بأن وراء مثالية المساواة كانت هناك عدم مساواة فضيعة . حتى في زمن ماو، كانت "للنومنكلاتورا" إمتيازات صارخة، غير قانونية وفاضحة. بمجرد نهاية الماوية المتشددة، كان الاتجاه هو التمنيع الذاتي ضد أية نظرية تفترض مصلحة عامة والتي نجم عنها هروب شامل إلى البعد الخاص. الفردانية محسوسة في الصين الآن. المصالح التي تعلو هي التي تخص الفرد، الأسرة والعشيرة. هذا يخلق بعض المشاكل بشكل جلي لأن الفردانية غير المتحكم فيها يمكن أن تؤدي إلى للاستقرار الاجتماعي وإلى النزاعات. فالعودة إلى النظريات الكنفشيوسية هو بشكل جلي محاولة لإيجاد إيديولوجيا لملأ الفراغ العظيم الذي خلفته الماوية.
لقد رأى هنتنغتون في العالم الإسلامي حليفا مفترضا للصين...
من كل التنبؤات الخاطئة التي قام بها هنتنغتون، هذه ربما هي الواحدة الأكثر بعدا عن الحقيقة. انطلاقا من عيشي هنا، يمكنني أن أؤكد أنه لا يوجد بلد أكثر معاداة للإسلام كالصين. توجد بعض الأقليات المسلمة في البلد وتعد "الوغيري"- كما يسميها الغربيون و الصينيون- أهمها، ويعرفون أنفسهم بأنهم تركمان. إنهم سكان إقليم كسينجيانغ وتعدادها سبعة ملايين نسمة. هناك أقليات مسلمة أخرى "كالهوي". في كل مرة تظهر فيها إحداها بعض التعاطف مع الأصولية الإسلامية يتم قمعها بشكل وحشي. في مساجد كسينجيانغ التي زرتها، تقوم كاميرات شرطة الأمن بتصوير المؤمنين أثناء الصلاة.
كذلك لأن الحكومة تخشى أن توقد الأصولية الإسلامية الحركة الانفصالية…
هي بالضبط كذلك. توجد في كسينجيانغ حركة انفصالية تطالب بأن تكون جزءا من تركمنستان الشرقية. لكن المحاولات الانفصالية يتم قمعها بعنف لا مثيل له في بقية أنحاء العالم. لا توجد لدى الصين نية بأن تصاب بعدوى بذرة الأصولية الإسلامية وهي تحاربها بتصميم مطلق. لا تسمح الصين للدين بأن يمثل عنصر تنظيم لحركات المجتمع المدني التي يمكن أن تتهرب من مراقبة الحكومة. هذا كذلك هو السبب الذي يعرقل المصالحة مع الفاتيكان؛ لا تسمح الصين للفاتيكان بتعيين أساقفة كاثوليك. الحكومة الحالية لا تريد السماح لـ"دالي لاما" بالعودة إلى البلاد مدعية بشكل مغلوط أنه انفصالي. الحقيقة أن الحكومة لن تعترف بوجود أية سلطة يمكن أن تقوض بشكل مفترض أو أن تكون بديلا عن السلطة الكلية للحزب والدولة.
لكن خلال اجتماعات الأمم المتحدة تساند الصين دائما الدول الإسلامية وخاصة إيران.
هناك مصالح مشتركة مع دول إسلامية بعينها. ولكن هذا يصح فقط في ما يتعلق بالجوانب السياسية، الإستراتيجية والاقتصادية. بسبب حاجتها إلى النفط، فإن الصين الآن هي أحد أكبر المؤيدين لإيران والسودان. لكن هذه المساندة لا تنبعث من تعاطفها مع الإسلام بل من كون الصين تميل إلى استغلال الوضعيات التي من خلالها يمكن أن تعوض الغرب و تأخذ بلدانا غنية بالثروات الطبيعية و الطاقة خارج دائرة النفوذ الأمريكي.
هل هو تهديد واقعي أن النموذج الصيني القائم على "الثروة بدون ديمقراطية"، يمكن أن يكون أكثر نجاحا من الديمقراطيات الغربية في المستقبل؟
نعم، التهديد قائم على أسس متينة. ففيتنام على سبيل المثال تقوم بنقل الصيغة الصينية مع بعض السنوات من التأخر؛ اقتصاد السوق, نظام شيوعي ورقابة على الانشقاق. يمكن أن يتم إغراء دول آسيوية أخرى للقيام بنفس الشيء. إذا كان على كوريا الشمالية أن تقوم بإصلاح نفسها يوما, فإنه من المحتمل أن تقوم به تبعا للنموذج الصيني. وخارج آسيا, فكل بلد من بلدان العالم النامي منبهر بالنموذج الصيني. هذا ما يفسر كون الصين تفلح في أن تجد لها طريقا في دول مختلفة كفنزويلا, السودان و أنغولا؛ إن التفسير لا يكمن فقط في الثروة الصينية. إنه عامل الثروة و حقيقة كون الصين لا تطرح أبدا أية أسئلة عن قضايا حقوق الإنسان, مقدمة بذلك هذه الفلسفة على أنها الأكثر نبلا. كالقول مثلا إننا لسنا هنا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول؛ فنحن نتعاون فقط من أجل تنمية العلاقات الاقتصادية. هذا ما يزيد، بلا شك، من هذا الإنبهار بالصين في البلدان التي لا توجد فيها ديمقراطية أو توجد فيها ديمقراطية هشة. هذا الخليط من التسلط متزاوجا مع الحركية الاقتصادية يمكن أن يكون جذابا بشكل خطير، خاصة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي و في البلدان التي تربطها علاقات حسنة مع الصين.
يقول الخبير في جامعة أكسفورد, "تيموثي كارتون اش", إن النقاش الأوروبي العادي ينشغل دائما في الثلاثين دقيقة الأولى منه بالولايات المتحدة. من أجل فهم مستقبلنا, هل يجب علينا أن نقرأ الجرائد الصينية أكثر من الجرائد الأمريكية....
قراءة أكثر تأنيا للصحف الأمريكية فقط قد تكون كافية. لأن صحيفة أمريكية جيدة تتضمن – في المعدل- ما يعادل ست إلى عشر مرات كمية الأخبار الصينية والهندية التي نجدها في الصحافة الأوربية باستثناء الصحافة البريطانية. لكنني أفهم مغزى السؤال. يجب علينا قطعا إعادة التوازن إلى نظرتنا و محاولة فهم العلاقات المهمة التي تتغير؛ يجب علينا أن نعترف أن محور "الصين-الهند" يشكل الآن قوة حقيقية تحول مركز مصنع العالم إليها. فقط الولايات المتحدة فهمت هذا الأمر بشكل مبكر جدا أكثر منا, والاهتمام الذي يولونه لنمو هذه الدول أكبر بكثير مما يولونه لأوروبا. سواء تعلق الأمر بالصحافة, بالعمليات الاقتصادية أو البحث الأكاديمي؛ إن الموارد الاقتصادية التي تستثمرها الولايات المتحدة لفهم الصين و الهند تسود بشكل مطلق.