أي تقييم جدي لهذه المسألة لا يمكن أن يتجنب السؤال المتعلق بالأداة. إن التاريخ البشري حافل بالدروس، فالإنسان استخدم النار، أعظم الاكتشافات الانسانية، سواء لطهي الطعام أو لحرق الغابات. هذا المدخل مفتاح مفيد لقراءة مثلا ظاهرة الهجرة في سياق العولمة. هناك حاجة إلى تحديد دور وسائل الاتصال المعولمة مثل الانترنت والفضائيات في عملية اندماج المهاجرين أو دفعهم إلى التقوقع في غيتوهات.
عاش والدي تجربة الهجرة في الخمسينات وبداية الستينات في فرنسا. في الواقع لم تكن هجرة بل منفى، فقد قضى سنوات حرب التحرير (1954 ـ1962) دون التمكن من العودة إلى الوطن. خلال هذه الفترة لم يستطع التواصل مع عائلته. بعد الاستقلال، عاد إلى الجزائر ليجد بنتا، ولدت ونشأت في غيابه، لم ير من قبل صورتها ولم يسمع صوتها. اليوم من حسن الحظ، هجرتي تختلف جذريا عن هجرة والدي. أتصل بوالدي على المحمول متى أردت، وأتكلم مع أختي تقريبا يوميا على (سكايب)، وأتبادل الرسائل الالكترونية والصور مع أصدقاء وأقارب منتشرين في أنحاء العالم. بارك الله في العولمة! باستطاعتي، مثل أغلبية المهاجرين، الاحتفاظ ورعاية العلاقات العاطفية مع البلد الأصلي. على ذلك، تتخلى الهجرة عن لبوساتها المأساوية مثل اللاعودة، التمزق، الهجران والفراق.
إن فكرة "الوسطية" عند أرسطو فضيلة لتجنب الإفراط، وبالتالي بلوغ الاعتدال. الإفراط في العولمة في سياق الهجرة يولّد أيضا الانغلاق والغيتو. أعرف الكثير من المهاجرين الذين يتابعون يوميا برامج القنوات التلفزيونية التابعة لبلدانهم الأصلية عن طريق الفضائيات. إنهم على دراية بما يحدث في البنغلاديش والسنغال ومصر والمغرب والبيرو مقارنة بالقضايا الإيطالية. شيئا فشيئا يفقدون الاتصال مع البلد الذي يعيشون فيه، على ذلك يقعون ضحية انفصام نفسي واجتماعي خطير جدا. أذكر أنه قبل سقوط حكومة برودي مؤخرا، طلب مني صديقي تونسي معلومات حول لقاء بين بيرلسكوني وفلتروني بعد أن تابع تقريرا صحفيا على قناة الجزيرة. في هذا الإطار السلبي، إن عولمة وسائل الاتصال قد تعيق عملية اندماج المهاجرين.
في الختام، إن علاقة العولمة بالهجرة تسمح لنا بالتطرق إلى مواضيع متصلة في غاية الأهمية. إن العولمة اليوم تعني حرية تنقل البضائع والأخبار. إلا أن البشر، خصوصا القاطنين جنوب العالم، لا يزالون يكافحون ضد بيروقراطية تأشيرات الدخول وقدسية فضاء شنغن.
*عمارة لخوص، كاتب وأنثروبولوجي جزائري مقيم بروما.