أرغب في الحديث عن العلاقة بين الدين والمجتمع المفتوح أو دعونا نقول: العلاقة بين الدين و السياسة و خاصة العلاقة بين الدين و الديموقراطية. يبدو لي الآن بأن هناك نموذجين أساسيين. لصياغة القضية باعتبار التصنيف المثالي, يمكن أن نفكر في اتجاهين: واحد حيث الدين و السياسة منصهرين و مختلطين و آخر حيث الدين و السياسة منفصلين بشكل مطلق و هما في وضعية طلاق بينهما. أما إطار انصهار الدين و السياسة فهو إغراء لكل الديانات من و جهة نظري, الشيء الذي يعني ان كل الديانات حاولت أن تتوق للسلطة السياسية و السيطرة. كان هذا إغراء قويا في المسيحية و الإسلام وفي الهندوسية. إنه إغراء يحتاج دائما إلى المقاومة لان لديه اثارا سيئة على الدين و السياسة على حد سواء. فالآثار السيئة التي يتم استحضارها دائما و باستمرار حول المسيحية هي أشياء مثل الحروب الصليبية, محاكم التفتيش و كل التحالفات بين العرش و الصليب. إن انصهار الدين و السياسة واحد من الإطارات التي نجدها في التاريخ و هي نموذج تجب مقاومته حسب اعتقادي.
النموذج الآخر هو متعلق بالطلاق التام أو الفصل بين الدين و بين الفضاء الاجتماعي و السياسي. مرة أخرى هذا إطار له مشاكله, إنه مسيء و بطرق مختلفة للسياسة و الدين على حد سواء. إنه يحرم السياسة من بعض الموارد الأخلاقية و الروحية و من جهة أخرى يحرم الدين من أي صوت او خطاب عمومي . هنا أود الحديث قليلا عن العلاقة بيت الدين( او الصحوة الدينية) و الديموقراطية و سوف أتحدث مباشرة عن نموذج الإسلام بشكل خاص لأننا موجودون هنا في المغرب, فكرت بأن هذا مناسب جدا. هنا كذلك اعتقد أن هناك مرة أخرى إطارين أو طريقتين متطرفتين للقول بان الإسلام و الديموقراطية أو الدين و الديموقراطية متناقضين من الأساس. يمكن للبعض أن يقول بأن الديموقراطية تدمر أو تلغي الإسلام أو أن الإسلام يدمر أو يلغي الديموقراطية. هذه أطروحة مضادة حقيقية و ليست خيالية. لقد أبانت عن نفسها في الواقع بأشكال مختلفة.
إن الذين يقولون إن الديموقراطية متناقضة مع الدين الإسلامي لديهم بعض الحجج و لكن ليست كل الحجج الى جانبهم و هنا أشير بشكل خاص إلى المفكرين السياسيين الذين يتوفرون علي أتباع كثيرين بين الشباب في العالم الاسلامي: كالمصري سيد قطب و كتاباته أو الباكستاني علاء مودودي و آخرون كثيرون. لقد جادلوا أساسا بأن الخطأ في الديموقراطية هو كونها تتجاوز فكرة مركزية للدين ألا و هي أنها تنقل إلى الناس السيادة الوحيدة الموجودة ألا و هي سيادة الله. يمكن كذلك أن تتم ترجمة الديموقراطية – و فعلا كانت كذلك في أحيان كثيرة – باعتبارها سيادة الشعب. هذا تناقض صارخ يصعب تجاوزه. فحجج أناس كسيد قطب و المودودي هو إنه إذا تم اختيار الديموقراطية فإنه يتم و لوج حقبة جديدة من الجاهلية التي تغلب عليها الرسول محمد. تعود إلى عصر الجاهلية باعتبار أنك تؤكد شيئا يتنافى مع الدين. أريد فقط أن أؤكد أن هؤلاء الناس ليسوا فقط جهلة و بلهاء بل لديهم بعض الحجج. حججهم سيئة و لكنها تبقى حججا. و الفكرة أساسا هي أنه لا يمكن أن توجد سيادة لله و سيادة للإنسان في نفس الوقت. يجب الاختيار بين الإثنين. بالنسبة لبعض الناس كسيد قطب هناك مسلسلات كاملة من الجاهليات حدثت في العالم الغربي. و يستحصرون أشياء كالحضارة اليونانية, الإمبراطورية الرومانية, النهضة الأوروبية و عصر الأنوار و الثورة الفرنسية. كل هذه ينظر إليها باعتبارها خطوات نحو جاهلية أكبر يجب إسقاطها.
المقاربة الأولى هي القول بأن الديموقراطية عليها أن ترحل و أن الإسلام يجب إعادته. الصيغة الثانية هي أن الإسلام و الديموقراطية متناقضين و أن الإسلام عليه أن يرحل أو على الاقل على الإسلام أو الدين أن يتراجع إلى فضاء خاص. يجب جعل الإسلام شأنا شخصيا بشكل صارم تماما كما حاول فكر الأنوار خصخصة المسيحية. هذه إذن هي حجج أنصار العلمنة الراديكالية و كذلك حجج اللادينيين. مثال آخر ( مرة أخرى آخده من العالم الإسلامي و لكنه ممكن الوجود في أي مكان اخر) و هو المنظر و المفكر السياسي الجزائري لهواري عدي. لقد كتب مقالة بعنوان " المثالية الاسلاموية و الديموقراطية" حيث يشير إلى هذا التناقض بالضبط, ليستخلص في الأخير أن الإسلام هو الذي يجب أن يرحل. بالنسبة لعدي فالمثالية الإسلامية هي صيغة أخرى لجعل الاسلام عموميا أو تسييس الاسلام و هو ما يناقض الديموقراطية الحديثة. الاسلام العمومي هو شكل من أشكال القروسطوية و حداثتنا السياسية متناقضة مع الطابع العمومي للدين. الحداثة مبنية على عدم تسييس الدين أي جعله شأنا خاصا.
هاتان طريقتان للحديث عن العلاقة بين الدين – خاصة الإسلام- و الديموقراطية. واحدة تقول إن الإسلام يجب أن ينتصر على الديموقراطية و الأخرى تقول إن على الديموقراطية أن تتغلب على الإسلام و تقصيه. الآن سؤالي: هل يوجد هناك طريق ثالث؟ هذه هي التي أفضلها شخصيا. أنا اوافق تماما جيولياتو أماتو الرأي أن هذه الحجج تسير في هذا الاتجاه. و أعتقد أن هذا الاتجاه هو الذي يفضله عدد من المفكرين المسلمين أو المثقفين في العالم الإسلامي. هو كذلك الخيار الذي يتبعه ضيف شرفنا المحتفى به, في كتاباته ألا و هو محمد عابد الجابري مع محمد أركون و إلى درجة ما حسن حنفي من بين آخرين. و لكن اود الإشارة خصوصا غلى الفيلسوف الايراني عبد الكريم سوروش. لأته صديقي من جهة و لكن ليس لهذا السبب فقط. لقد كتب بشكل جميل حول هذه الامكانية الثالثة واصفا ما يسميه " بالديموقراطية الدينية" . هذا النوع من الخيارات الذي يؤكد على (و هنا أتحدث كفيلسوف اجتماعي و سياسي) ما نسميه اليوم "بالمجتمع المدني". المجتمع المدني هو الإطار الذي يجب أن يعطى فيه الدين حرية الكلام و القدرة على التعبير عن نفسه و ليس على مستوى الحكومة أو الدولة. ليس الأمر متعلقا بالقضاء على الدولة البيبرالية و المحايدة و لكن يتعلق بمنح حرية دينية أكثر للمؤمنين في باحة المجتمع المدني أي في المدارس و الجمعيات و الكنائس.
يوجد هذان المبدآن في أمريكا: فصل الكنيسة عن الدولة الذي يعني أن الدولة ليست مؤسسة دينية,
و في جانب آخر مبدأ الحرية الدينية. كيف يمكن التوفر على دولة ليس لديها دين رسمي و لكن في نفس الوقت تشجع الحرية أو المؤمنين أو بتعبير آخر لا تشوه أو تهمش حرية المؤمنين؟ هذا بالضبط ما سماه سوروش "بالديموقراطية الدينية". لاتعني أن الدين يسيطر على الديموقراطية ولكن إن انواعا مختلفة من الدين أو التدين ( يمكن أشكالا من التدين غير العقدية و غير المؤسساتية كالطريقة الصوفية) تتعايش مع الديموقراطية. لقد حاولت أن أصف لكم ماهية العلاقات بين السياسة و الدين. يمكن إما التوفر على إطار راديكالي يصهر الاثنين إو آخر يفصل بينهما, ولكنني أعتقد إن طريق الخلاص الوحيد الذي يجب اقتفاؤه هو منح الناس احترامهم الذاتي و هويتهم, منح الناس في المجتمع المدني – الذي هو فضاء الدولة و الفضاء الخاص- الحد الأقصى من الحرية للتعبير عن المعتقدات الدينية. هذا في نظري يتماشى مع الديموقراطية و الدين و خصوصا مع الإسلام.
فريد دالماير أستاذ النظرية السياسية. يدرس في شعبة الفلسفة و العلوم السياسية في جامعة ‘Notre Dame’ في و لاية انديانا (الولايات المتحدة الأمريكية). كتب العديد من المؤلفات من بينها: " حوار الحضارات, بعض الأصوات النموذجية" (منشورات بالكراف ماكميلان سنة 2002) و كتاب "تساؤل صغير: القوة الشاملة والمستاؤون منها" ( منشورات ليكسنغتون بوكس سنة 2005).
يمثل هذا النص المداخلة التي قدمها دالماير في المائدة المستديرة المنظمة من قبل منتديات "ريسيت" للحوار بين الحضارات تحت عنوان " الصحوة الدينية و المجتمع المفتوح" المنعقدة بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة الذي تحتفل به منظمة اليونيسكو (الرباط بوم 16 نونبر 2006). شاركت في هذا اللقاء الشخصيات التالية: وزير الداخلية الايطالي جيوليانو أماتو, الفلاسفة: عبدو فيلالي انصاري (المغرب) فريد دالماير ( الولايات المتحدة الأمريكية) صادق العظم (سوريا) سيباستيانو مافيتو وأليساندرو فيرارا إيطاليا) ورئيس تحرير منتديات ريسيت للحوار بين الحضارات جينكارلو بوسيتي و مديرة منتديات ريسيت للحوار بين الحضارات نينا زو فرزبرغ.