هذه المقال عبارة عن مشاركة الكاتب خلال الأيام الدراسية المنظمة من طرف مؤسسة ريسيت للحوار بين الحضارات في اسطنبول من 2 يونيو إلى السادس منه سنة 2008.
تروج خطابة قوية اليوم تدعى بان الإسلام، ليس فقط الإسلام الأصولي أو الوهابي أو السلفي، ولكن الإسلام نفسه دين معاد للديمقراطية. معاد ليس فقط للحرية والتعددية والمجتمع المفتوح ولكن معاد للحداثة ذاتها كما هي متعارف عليها في القيم الليبرالية. إن الموقف الواضح هو نظرية "صراع الحضارات" لصامويل هتنغتون (Samuel Huntington) التي تبين عدم صدقيتها والتي يقول فيها بان الغرب وبقية العالم محكوم عليهم بصراع من أجل البقاء. إنه غريب عن نقاشاتنا هنا في اسطنبول والحقيقة حاضر بقوة في كل مكان في السياسة والإعلام الغربيين.
إنه موجود ليس فقط في سلوك بوش المتحمس لحرب كارتية على "محور الشر" أو تأكيد دونالد رامسفليد Donald Rumsfield) بأن الأصولية الإسلامية هي شكل جديد للفاشية" أو من خلال برانويا احداث الجناح اليميني مثل "اسبوع التوعية ضد الفاشية الاسلامية" لديفيد هارويتز (David Harowitz) ولكنه يتم التعبير عنه كذلك من خلال كتابات الليبرالية من أمثال بول بيرمان (Paul Berman) الذين يتحدثون عن كون الغرب "منزعج من الإرهابيين القادمين من الحركات الشمولية الإسلامية والذين قتلوا عددا مذهلا من الناس " أو من خلال علماء كبرنار لويس Bernard Lewis) ) الذي يعلن بنبرات مهموسة مليئة بالشفقة بأن "عالم الإسلام أصبح فقيرا، ضعيفا وجاهلا" أو من خلال المرتدين المسلمين كحرسي علي والتي تجمع على ما يبدو بين إغراء ليبرالي للقيم النسوية مع رفض كلي ليس فقط للأصولية ولكن للإسلام نفسه.
إن هذه السجالات قد تتجاوز دحضها العقلاني في حماسهم السجالي. ولكن الاستاذ هابرماس (Habermas) ـ أظن- سيفضل مواجهتهم بشكل عقلاني من أجل دحضهم. هذه هي وجهة نظري. بكل تأكيد إذا ما أردنا أن ننجح في العمل الشاق المتمثل في صياغة بارعة للديمقراطية في المجتمعات التي تتخذ الدين على محمل الجد ، تقريبا جميع المجتمعات. أريد أن أطرح ستة دلائل مباشرة، بعضها تاريخي، بعضها سوسيولوجي وبعضها فلسفي ـ كلها عقلانية وفي المتناول بالمعنى العام للعقلاني ـ والتي توحي بأنه من العبث الإعتقاد بأن الإسلام لا يمكن أن يلائم الديمقراطية أو أن الديمقراطية لا يمكنها أن تلائم الإسلام.
أولا: ليس الإسلام لذاته ولكن الدين باختصار هو الذي يعيش نوعا من التوتر مع العلمانية ومع الديمقراطية ـ توتر صحي أكثر مما هو غير صحي في مجتمع مفتوح . إن كتاب "المدينيتن" لأغوستين Augustine و"السيفان" للبابا جيلاسيوس Gelasius) ) يتحدثان لعالم الجسد ولعالم الروح، يتحدثان عن الزمني والخالد، عن الدنيوي والديني (الكنسي) إن هذه الثنائيات لا تنبثق من اللاهوت ولكنها تعلم اللاهوت بمنطق الثنائية العميق الذي يحدد كياننا. إن تعارض الاخلاقية مع السياسة، والقدسي أو الطبيعي والقانون الوضعي يتم نقله إلى التعارض بين الكنيسة والدولة الذي ينتج توترات مزعجة ولكنها صحية للمجتمعات في كل مكان.
ثانيا: لقد أكد علماء الاجتماع منذ طوكفيل (Tocqueville) ودوركايم Durkheim) إلى عالم اجتماع الديمقراطية، الأمريكي روبرت بيلاه (Robert Bellah ) بأن المجتمعات المفتوحة بنيت على أساس ديني مما يمنحها الاستقرار ويجعلها قادرة على بلوغ ترف الاختلاف السياسي. إن الديمقراطية بالضبط هي التي تؤرض الشعوب الديمقراطية وتخلق التلاحم بين أناس يمكن أن ينقسموا بشكل مصيري بسبب اختلافاتهم الاقتصادية والاجتماعية وخلافاتهم السياسية.
كما كتب طوكفيل في كتابه "النظام القديم" "أن الاستبداد قد يحكم بدون ايمان ولكن الحرية لا تستطيع ذلك …إن الجمهوريات الديمقراطية في حاجة إلى الدين أكثر من أي واحدة أخرى. كيف يمكن للمجتمع أن ينجو من الدمار إذا لم تتم تقوية الرابطة الاخلاقية بشكل يتناسب مع إضعاف الرابطة السياسية؟" إن المجتمع المدني حيوي لديمقراطية تعددية ولكن روابطه غالبا ما تكون رقيقة.
إن الدين يمكن أن يكون مصدرا قويا للرأسمال الاجتماعي والذي ربما يفسر لماذا فهم روسو (Rouseau) بأنه عند غياب الدين في مجتمع ما فإن هذا الأخير يتطلب مجتمعا مدنيا ـ ماسماه هابرماس (Habermas ) الإيمان المدني "الأمريكي" ـ لكي يصبح مجتمعا حرا.
ثالثا : مثل الديانة المسيحية والديانات الأخرى، الدين الإسلامي دين يتم تطبيقه في الكثير من الثقافات والمجتمعات، طائفية، طبقية، اشقاقية وتعددية، فنحن المسيحيون نتحدث بسهولة عن المعمدانين، واللوثريين، والكاثوليك والنظاميين والمورمون والأسقفيين وشهود الرب…..
200 طائفة أو أكثر ـ في حين قال توماس جيقرسون (Thomas Jefferron) "أنا طائفة بذاتي". ولكن نجد من الصعوبة بمكان فهم أن يكون المسلمون طائفيين وانشقاقيين حيث إن دينهم يبدو مختلفا من ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. ما يقارب 15% فقط من 1.3 مليار مسلم في العالم هم من العرب ولكنه من الصعب القول كم عدد الغربيين الذين يعرفون ذلك، وبأن القسط الأكبر من المسلمين يعيشون في الهند واندونيسيا. حتى برنار لويس (Bernard Lewis) يكتب تاريخه عن انحطاط الإسلام من منظور الشرق الأوسط والعثمانيين بالدرجة الأولى .
رابعا: في الوقت الذي نحب فيه أن ندعي بأن الدين في العصر الحديث يجب ان يكون ويبقى مسألة شخصية، أبرشية وعرفية فإنه يبقى عموميا، كونيا وأخلاقيا ـ إنه مخلوق النظام الكوني (Nomos) على الأصح منه من النظام الاثني (Ethnos) . إنه يتمنى احتلال الساحة العمومية وإن لم يكن بالضرورة (City hill) ومطالبه تنافس بالضرورة مطالب القانون الوضعي، حتى المجتمعات الأولى حرضت قوانينها العرفية " الخاصة بالنفقات المنظمة للسلوك العام ان تكون ضد القانون الوضعي للدولة. وليس هناك دين لا يمنح نسخة من الشريعة، هل الوصايا العشر التي تشكل الشريعة الموسوية وجدت لتكون خاصة أو أقل من كونية؟ إن واعظا متزمتا في القرن السابع عشر اسمه برين (Prynne) كتب منشورا يوجه الأبرشيين إلى أن من بين الممارسات الممنوعة "الرقص المختلط المخنث، القمار، المسرح، الصور الداعرة، الأزياء الفاسقة، الماكياج، السكر، الشعر الطويل، أقفال الحب، الشعر المستعار، تجعيد النساء لشعرهن وصبغه وقصه، إضرام النار في الهواء الطلق، هدايا رأس السنة، العاب شهر ماي، الحب الرعوي، الموسيقى المخنثة الداعرة، الضحك المبالغ فيه، الاحتفال المترف والمشاغب بعيد الميلاد " كل هذه الاشياء "شريرة وهوايات غير مسيحية" من النوع الذي يجعل الرجال "زناة ومعاشرين للعاهرات، فاسقبن، قوادين، همجيين، مثيرى ضوضاء، سكيرين، باذخين وخونة … التي هي اشياء يقوم بها اناس تافهون، شائنون، دنيئون، مدنسون وغير مؤمنين بالله والذين يكرهون كل اشكال النعمة الاهية ويسخرون من التقوى". هكذا كان طالبان البيورتانين الاوائل في الوقت الذي استوطنوا فيه انجلترا الجديدة (New England) ووضعوا أمريكا على طريق كومنولت بيوريتاني وفي نفس الوقت جمهورية ديمقراطية – جمهورية حيث يستحيل اليوم في الكثير من الولايات شراء الكحول يوم الاحد.
خامسا: ان الدين اصولي في الكثير من المناطق بنفس درجة اصولية الاسلام لان الدين في عصرنا العلماني تحت الحصار والاصولية هي قبل كل شيء ردة فعل لدين تحت الحصار. لقد كان الدين يوما هو الهواء الذي نتنفسه والاثير الذي نسبح فيه ولكن التجارة والعلمانية والمادية اليوم هي الهواء الذي نتنفسه والاثير الذي نسبح فيه. هناك الكثير بالفعل الذين يؤكدون بان الديمقراطية أكثر قليلا من انتصار التجارة وفوز المادية العلمية والتي يمكن ان تفسر استهداف الاصولين، الذين يبحثون عن تأمين ديناتهم، ليس فقط للحداثة ولكن للديمقراطية ايضا. ان الأصوليين البروتستانت الذين يربون أبنائهم في البيت مختلفون قليلاعن الاصوليين الاسلاميين الذين يعارضون تجاوزات الاسواق الراسمالية . كلاهما يرون في هوليود شارع مادسون وفي الامتيازات الاستهلاكية التي تحيط بالعالم اليوم والتي تسيطر على الاعلام والانترنيت مسربا ذو طريقين ـ طريق يجرف قيمهم حتى وهو ينفث العنف في بيوتهم والصور الاباحية " للرأسمالية المتوحشة" التي تجبر المستهلكين على الشرب من مساربها حتى تزدهر اسواقها.
بتعبير اخر ان الاصولية باعتبارها دينا تحت الحصار هي بدرجة مهمة عبارة عن ردة فعل اكثر مما هي توقعية احترازية (Proactive). انها تستجيب للقوى الخارجية التي ترى بأنها تضعف اخلاقها وتهدد قيمها، تغري ابناءها وتدمر مجتمعاتها. هناك الكثير من المبالغة وسوء الفهم في ردات الفعل هذه ولكن هناك ايضا بعض الحقائق التي حاولت أن اتنبأ بطبيعتها في كتابي "الجهاد ضد ماك ورلد" ان الخلاصة الجوهرية هي أن الجهاد و"ماك ورلد" كلاهما يحتاجان وينتجان بعضهما البعض وهما عدوان للديمقراطية. ان الاصولية خلافا للدين العادي لن تساند الديمقراطية ولكن لن تساندها كذلك قوى "ماك ورلد" التي تقود الاصولية الى الحائط او الى شفى الكارثة.
سادسا وأخيرا : لقد رأينا تلك القناعة التي تقول بان الاسلام لا يلائم الديمقراطية متجذرة في فهم وضحل وغير مكتمل للإسلام. ولكنه صحيح كذلك بان القناعة بان الديمقراطية لن تلائم الاسلام متجذرة في فهم ضحل وغير مكتمل للديمقراطية، فهم ينحو الى تشبيه الدمقرطة بالأمركة او الغربنة او نشر اقتصاد السوق . انها مقيدة الى النظرة المغلوطة التي تقول بأنه لا يوجد غير نوع واحد من الديمقراطية، طريق واحد نحو الحرية، صيغة واحدة لترجمة نظرة العدالة الى ممارسات عادلة ولكن من الناحية التاريخية والفلسفية فان الديمقراطية مفرد وليست بصيغة الجمع. سوف تستفيد كثيرا من الحديث عنها فقط بصيغة الجمع اكثر من صيغة المفرد . "ليست ديمقراطية ولكن ديمقراطيات".
الامر سيحتاج الى نص منفصل لاقتراح عمق انحراف الفهم الامريكي النمطي للديمقراطية عندما يتعلق الأمر بمساعدة الاخرين للوصول الى الحرية .المشكل يبدأ بوهما أن الاخرين تمكن مساعدتهم أن الديمقراطية ممكن "منحها" أو" اهداؤها". لم يتم تحرير أي شعب عن طريق السلاح من طرف الخارج .. ان غازيا يمكن أن يطيح بنظام مستبد ولكنه لن يستطيع خلق ديمقراطية . ان الاطاحة بالاستبداد لا ينتج الديمقراطية ولكنه ينتج اللاستقرار وعدم النظام والفوضى والحرب الاهلية عادة. ومع مرور الوقت لا يقود الى قيام ديمقراطية ولكن الى بروز مستبد جديد. ان الرئيس بوش يلمح باستمرار الى الحرب العالمية الثانية لكن انتصار الحلفاء على النظام النازي لم ينتج الديمقراطية. لقد تتطلب الامر اعادة التربية، مخطط مرشال، الامم المتحدة والمجموعة الاوربية للقيام بذلك.
لا يمكن منح الحرية كذلك للاخرين: لا بد ان يفوز بها اولئك الذين يبحثون عنها من الداخل وتثبيتها بالنسبة لهم يجب ان ياتي من الاسفل الى الاعلى لا ان يتم بناؤها من الاعلى الى الاسفل. يجب اولا تربية المواطنين والقيام بالعمل الشاق والبطيء المتمثل في بناء مجتمع مدني وبعد ذلك يجب بناء بنية تحتية سياسية فوقه. ان الامريكيين كانت لديهم تجربة حسنة من الحريات البلدية والمواطنة الكفئة قبل أن يعلنوا استقلالهم. ان الديمقراطية تأخذ الوقت. ان الديمقراطية السويسرية بدأت سنة 1215 ولم تمنح النساء حق التصويت الا سنة 1961. ان البريطانيين وضعوا أسس الحقوق في" الماكناكارتا"(Magna Carta) سنة 1215 وحاربوا في ¬¬¬¬¬¬"ثورة مجيدة " سنة 1688 وبالرغم من ذالك ما زالوا "مسرجون" بمجلس اللوردات والملكية. ان الامريكيين امضوا التامنين سنة الاولى من عمر جمهوريتهم الفتية يبحثون عن طريقة لفصلها عن العبودية ! هذا الفصل الذي حققوه أخيرا ولكن فقط بفضل حرب أهلية دموية. ورغم ذلك فإن المتشائمين يتوقعون أن تحصل عليها إيران بعد سنتين أو ثلاثة في حين أن المتفائلين يعتقدون بأن العراق يحتاج فقط إلى ستة أشهر أخرى.
إذا كان الصبر مطلوبا والديمقراطية تبنى من الأسفل إلى الأعلى، إذن فالانتخابات تأتي في الأخير وليس في المقدمة. إن الهرولة نحو التصويت علامة على أن أرضية الديمقراطية لم تكن مهيأة وعندما يحدث التصويت في غياب مواطنين متعلمين أكفاء يمكننا أن نتيقن بأن آفاق الحرية والعدل ضعيفة . إن الأولوية للمدارس، والتربية المدنية والمؤسسات المدنية المستقلة وجمعيات المجتمع المدني التعددية بعد ذلك تأتي الانتخابات. وفي مساعدته إغناء ونشر المجتمع المدني يمكن للدين أن يساعد في بناء أساس حكامة ديمقراطية.
وأخيرا إذا كانت الديمقراطية تعددية ومميزة من مجتمع إلى آخر، فإن الطريق نحو الديمقراطية يأتي ليس فقط من التقليد والاستعارة ولكن من التنقيب والاختراع. إن كل مجتمع لديه ميولات ديمقراطية، عادات قبل ديمقراطية، مؤسسات تشجيع على التداول والنقاش والمساواة. إنه قد يكون "لويا جركا" في مكان ما حيث يستطيع التفاوض والوصول إلى توافق جزئي بين قبائل متنافسة. وفي منطقة أخرى قد يكون إمكانيات التآخي والتداول القبلي: تذكروا كيف أعجب المؤسسون بهنود " الموهاوك" . هناك الكثير من أشكال التجمع ومستويات متعددة من المشاركة وكل واحدة منها تستطيع إنتاج الحكم الذاتي في ظل الشروط المناسبة.
وفي الأخير فإن تعددية الديمقراطية توجب بأن الشرط الوجودي للديمقراطية هو تفويض السلطة. وأن أولئك الذين يريدون "المساعدة" يجب عليهم أن يتعلموا الحرية وتعلم أن يتركوهم لوحدهم. كما كتب ت ـ ش ـ لورانس (T.H.Laurence) مند زمن بعيد : "أفضل أن تتركوهم يفعلوها ولو بشكل غير كامل من أن أتفعلوها أنتم بشكل كامل: لأنه بلدهم وطريقهم ووقتكم انتم قصير". إذا كانت الديمقراطية تعني شيئا فإنها تعني حق الناس في ارتكاب الأخطاء، حق الناس في ممارسة دينهم، حقهم في البحث عن أشكال للحكم الذاتي، أعرف أعرف أنها تأخذ وقتا. إنها تستطيع أن تصل إلى مستويات على حساب الحقوق.
في بعض الأحيان تسمح للأبوية بالاستمرار وتمكن الدين من فرصة قلب ومساندة الديم