إن تصور صامويل هنتينغتون المرعب، والمتمثل في صراع حتمي للحضارات، يعتمد – بحسب إدوارد سعيد – على "مفهوم غامض لشيء أسماه هنتينغتون ‘الهوية الحضارية’، والتفاعلات بين سبع أو ثماني حضارات رئيسية يحظى النزاع بين اثنين منها، الإسلام والغرب، بنصيب الأسد من اهتمامه". وبما أن العديد من الخبراء ينظرون الآن إلى نبوءة صراع الحضارات (التي تحقق نفسها بنفسها) على أنها المخطََّط الأم للسياسة الخارجية الأمريكية في أعقاب 9/11 ، فإننا مضطرون إلى حمل أفكار هنتينغتون – بما في ذلك فكرة "الهوية الحضارية" – على محمل الجد. فبعد أن أعلن في مقال صيف 1993 الذائع الصيت "صراع الحضارات؟" أن "خطوط التصدع بين الحضارات ستصبح خطوط المواجهة في المستقبل"، مضى هنتينغتون ليفرد الثقافة والدين كأهم عناصر الهوية الحضارية.
فعلى سبيل المثال، يزعم هنتينغتون أن "المجموعة الأوروبية تستند إلى أساس مشترك من الثقافة الأوروبية والمسيحية الغربية". وإذا ما نحن قبلنا جدلاً بزعم هنتينغتون المفرط في التفاؤل إزاء مكانة المسيحية في أوروبا الحديثة، فلا بد لنا أن نتساءل: ما هي الثقافة الأوروبية؟ لا يحدد هنتينغتون هنا المقصود بالثقافة الأوروبية، متملصاً من فخ الاختصار المخل لمفهوم بالغ التعقيد كهذا، اختصاراً في مجرد جانب أو جانبين من جوانبه المتعددة والدائمة التطور. لكن البابا في خطاب ريجنسبرغ الذي حظي بتغطية واسعة نحى بأفكار هنتينغتون منحىً أبعد خطورة إذ حاول ترسيخ هوية أوروبية قوامها نسيج مثير للجدل من المسيحية الغربية والتراث اليوناني، ومن ثم الروماني، وهو نسيج مزقته قرون طويلة من "نزع الهَلْيَنة" مصدره الكنيسة ذاتها. يقارن خطاب ريجنسبرغ – الذي اقترب في توقيته من ذكرى 9/11 قرباً مقلقاً – بين الهوية اليونانية المسيحية المفترضة لأوروبا وبين إسلام خرافي، متعطش للدماء ولا عقلاني بطبيعته.
ليكن نور
مع أن النهضة الأوروبية كانت قد سُُبقت بنهضة في الفكر الأرسطي – في المقام الأول عن طريق الشروح المعمَّقة للفيلسوف الإسباني المسلم ابن رشد الذي انتهى، استناداً إلى القرآن الكريم، إلى أن دراسة المنطق واجبة دينياً – فأن ولادة العلم الحديث تزامنت على الرغم من ذلك مع انهيار الرؤية البطليمية للعالم. فنظريات بطليموس واسعة الانتشار كان عليها أن تفسح المجال لنظريات جديدة قائمة على التجربة بدلاً من آراء أفلاطون وأرسطو. هذه الرؤية الجديدة للعالم صيغت رياضياً عن طريق الهندسة التحليلية التي دمجت دمجاً أنيقاً بين هندسة إقليدس وجبر الخوارزمي (العراق، 780-850). ارتكزت رؤية بطليموس للعالم على ركيزتين أساسيتين: واحدة بصرية والأخرى فلكية. أما في الفلك فقد طور بطليموس رأي أرسطو بأن الأرض هي مركز الكون إلى نموذج فلكي متكامل. وبالرغم من أن نموذج الكرات، التي بعضها داخل بعض، هذا أعطى نتائج دقيقة عموماً، إلا أنه وضع القمر في مدار جعله في بعض الأوقات أقرب إلى الأرض بمرتين منه في أوقات أخرى؛ ومعنى هذا أن القمر كان يجب أن يُرى أحياناً أكبر بمرتين!
وفي حين أن هذا الخلل لم يقض على نموذج بطليموس، فإن سبقاً تقنياً هاماً في حوالي عام 1608 كان كفيلاً بالقضاء عليه. فقد مكّن اختراع المنظار المقرب – من قبل صانعي نظارات هولنديين – مكّن غاليليو من تفحص النجوم والكواكب المختلفة بوضوح غير مسبوق. غاليليو وجد أن كوكب المشتري تحديداً كانت له عدة أقمار تدور حوله، في تعارض مباشر مع نموذج بطليموس "أرضي المركز" الذي تدور فيه كل الأجرام السماوية حول الأرض. وبالرغم من محاكمة غاليليو – ومن ثم قمعه – من قبل محكمة التفتيش فقد استُبدِل نموذج بطليموس في آخر الأمر بنموذج كبلر "شمسي المركز" الذي تدور فيه الأرض بيضاوياً حول الشمس. أما في البصريات فقد فسر بطليموس ظاهرة الرؤية تفسيراً خاطئاً باستخدام نظريته "شعاع الرؤية"، التي يرجع أصلها إلى أفلاطون. تُصدر العين حسب هذه النظرية أشعة تنتشر في الهواء متحسسة الأجسام المختلفة قبل أن تعود إلى العين بتصور مرئي للأجسام المشاهَدة؛ لذلك قيل عن شعاع بطليموس هذا أنه يشبه "عصا الأعمى".
لكن سبقاً تقنياً هاماً في منعطف الألفية الأولى مكّن العالم العربي ابن الهيثم من أن يفسر وبنجاح كيفية الرؤية معتمداً فقط على الضوء الداخل إلى العين. ابن الهيثم بيّن عملياً باستخدام الكاميرا ذات الثقب التي ابتكرها – والتي هي أساس التصوير الفوتوغرافي – كيف أن الضوء المنعكس عن الأجسام المضاءة يسقط في داخل العين مكوناً صورة مرتبة نقطة بنقطة للمنظر المشاهَد. بحوث ابن الهيثم هذه لم تؤدِّ فقط إلى تفنيد نظرية بطليموس الخاطئة بل جعلت من التجربة البرهان المعتمد، ليس في البصريات وحدها وإنما في الفيزياء عامة. (انظر "أعجوبة الضوء" من مطبوعة اليونسكو "عالَم من العلوم"، المجلد رقم 3، العدد رقم 4، أكتوبر – ديسمبر 2005). وبينما بدأت – في البصريات – دراسة الخصائص الحارقة للعدسات قبيل ابن الهيثم، فإن دراسة خصائص الرؤية والتكبير فيها لم تنطلق فعلياً إلا مع كتابه الرائد "المناظر". وقد شكل هذا أساساً لحرفة صانعي النظارات الهولنديين الذين اخترعوا – بأن وضعوا عدسة أمام أخرى – المنظار المقرب، ممكنين غاليليو من تحدي بطليموس ومحكمة التفتيش علمياً.
صراع الجهالات:
"لا إكراه في الدين"، هكذا أعلن القرآن الكريم بما لا يدع مجالاً للشك رفضه لاستخدام القوة في تغيير العقائد. لماذا؟ تستطرد الآية المعروفة شارحة "قد تبين الرشد من الغي"؛ أي بالدليل والحجة. "إن قصة ‘نشر الإسلام بالسيف’ هي أسطورة شريرة، واحدة من تلك الخرافات التي نشأت في أوروبا أيام الحروب الكبرى ضد المسلمين"، هذا ما يقوله داعية السلام اليهودي أوري أفنيري في مقاله الجدير بالذكر"سيف محمد". وبما أن الإسلام يمنح المسيحيين ذات المكانة التي يمنحها لليهود، فربما كان من المفيد أن نسأل ما إذا كانت الأقليات اليهودية تحت حكم المسلمين قد أُجبرت على تغيير ديانتها. نفس السؤال يمكن أن يُطرح بصورة مختلفة: ما هو نظير محاكم التفتيش المسيحية لدى المسلمين؟
"لا يوجد دليل على الإطلاق على أي محاولة لفرض الإسلام على اليهود" كما يقول أفنيري الذي يستطرد قائلاً: "لقد تمتع يهود إسبانيا كما هو معروف – تحت حكم المسلمين – بازدهار لم يتمتع به اليهود في أي مكان آخر حتى أيامنا هذه تقريباً…. كان اليهود في إسبانيا المسلمة وزراء، وشعراء، وعلماء". وينتهي أفنيري إلى أن "ذلك كان بحق هو العصر الذهبي". وبالفعل فإن العديد من كتب العلامة الموسوعي ابن رشد (الأندلس،1126-1198 ) لم يصل إلينا إلا من خلال الترجمات العبرية واللاتينية لها، والفضل في ذلك يعود إلى تلامذته من اليهود والمسيحيين في إسبانيا المسلمة، ولاحقاً في مختلف أنحاء أوروبا. فعلى سبيل المثال لم تتم ترجمة شرحه الهام ل"جمهورية أفلاطون" من العبرية إلى العربية – التي كُتب بها ابتداءًً – إلا منذ سنوات قليلة فقط. إن السؤال الحاسم، كما طرحه أفنيري، حول مشاركة الأقليات الدينية في حياة المسلمين العلمية، والثقافية، وحتى السياسية، هو: " كيف كان يمكن ذلك لو أن النبي أمر بنشر الدين بالسيف"؟ وبوصفه داعية حقيقي من دعاة حوار الأديان والثقافات – القريب البعيد – قال البابا يوحنا بولس الثاني ذات مرة: "لا ينشأ صراع إلا إذا حُمل الإسلام أو المسيحية على غير محملهما أو طُوِّعا لغايات سياسية أو أيديولوجية". هذه الفراسة – التي تنطبق على الأزمة الحالية أيما انطباق – تضاهي تبديد إدوارد سعيد لخرافة صراع الحضارات كصراع جهالات ليس إلا.